
لطالما كانت فكرة الكمال محط تفكير الإنسان، فهو يسعى إليه في جميع جوانب حياته: في العمل، في العلاقات، في الجمال، وفي الذات. لكن هذا السعي المستمر وراء الكمال قد يظل دائما مؤجلا لوقت ما في المستقبل، ويثير التساؤل العميق: هل من الممكن أن نجد الكمال، أم أن السعي إليه هو سبب عدم اكتمال الإنسان في ذاته؟ وهل قد يكون السعي وراء الكمال في حد ذاته مصدرًا للمأساة الإنسانية؟
الكمال كفكرة فلسفية: الحلم والتحدي
منذ الفلاسفة اليونانيين القدماء، مثل أفلاطون، كان الكمال يُنظر إليه كـفكرة مطلقة. في عالم أفلاطون، كان الكمال موجودًا في عالم الأفكار المثالية، حيث تكون الأشياء في شكلها الأسمى، بعيدة عن الزمان والمكان. هذا الكمال المثالي لا يمكن أن يتحقق في عالمنا المادي، ولكنه كان مصدر الطموح الإنساني. هذا المفهوم يتركنا في حالة من البحث المستمر عن المثالية، دون أن نتوصل إليها أبدًا.
ومع تطور الفلسفة الغربية، بدأ الفلاسفة في طرح الأسئلة حول الطبيعة الإنسانية وعلاقتها بالكمال. سقراط، مثلاً، كان يرى أن معرفة الذات وتحقيق الفضيلة هو الطريق الأقرب إلى الكمال، لكن هذا لا يعني التوصل إلى الكمال النهائي، بل السعي المستمر لتحقيق الأفضل. الفكرة هنا هي أن الاكتمال أو الكمال ليس حالة ثابتة، بل هو عملية مستمرة من التحسن والنمو.
السعي إلى الكمال: أداة للتحفيز أم فخ من الفخاخ النفسية؟
إن السعي وراء الكمال ليس دائمًا دافعًا إيجابيًا أو بنّاءً. في الواقع، يمكن أن يكون هذا السعي نفسه سببًا رئيسيًا في الشعور بالنقص أو عدم الاكتمال. ففي كثير من الأحيان، يؤدي البحث المستمر عن الكمال إلى ضغط نفسي هائل، حيث يشعر الفرد أنه غير كافٍ أو أن ما يحققه لا يستحق الاحتفاء به. هذه الحالة تعرف في علم النفس بـالمثالية أو تطلب الكمال (Perfectionism)، حيث يحدد الشخص أهدافًا غير قابلة للتحقيق ويسعى لتحقيقها، مما يعمق شعور الفشل في حال عدم الوصول إليها. حيث يركز الشخص فقط على ما يمكنه أن يصل إليه من كمال في المستقبل لأنه لا يرى في حاضره إلا النقص والتقصير.
على سبيل المثال، في مجتمعنا المعاصر، الذي يقدّر الجمال الخارجي و النجاح المهني والعلاقات المثالية، قد يواجه الأفراد ضغوطًا كبيرة لتحقيق هذا الكمال المأمول. في هذه الحالة، يصبح الكمال مقياسًا غير واقعي، وهو ما يدفع الشخص إلى العيش في حالة من القلق المستمروالتوتر والإحباط، مما يترتب عليه شعور دائم بعدم الاكتمال.
الاكتمال في الفلسفة الشرقية: النقص كجزء من الكمال
إذا كان السعي وراء الكمال في الفلسفة الغربية غالبًا ما يرتبط بالصراع المستمر من أجل تحسين الذات، فإن الفلسفات الشرقية تقدم منظورًا مختلفًا. حيث يُنظر إلى الكمال على أنه عملية من قبول الضعف والقصور، لا من محاولة التغلب عليها. في هذا السياق، يُعتبر النقص جزءًا أساسيًا من التجربة الإنسانية، ويُنظر إليه على أنه مصدر للنمو والتطور الروحي.
من هذا المنظور، الكمال ليس غاية يمكن الوصول إليها، بل هو حالة من الانسجام الداخلي مع الواقع، بما في ذلك العيوب والتحديات التي تواجه الإنسان. الزهد وتذكر الموت، على سبيل المثال، يعلمان الفرد أن يدرك حدود وجوده، فيتوقف عن السعي المستمر للكمال ويقبل بواقعه كما هو.
الإنسان في حالة عدم اكتمال دائم
إن عدم الكمال ،كصفة إنسانية، قد يكون أحد الحقائق الجوهرية في التجربة الإنسانية. هذا النقص هو الذي يمنحنا الدافع للاستمرار في البحث عن المعنى والمعرفة والتطور. فبدلاً من أن يكون نقصنا سببًا للشعور بالخذلان، يمكن أن يُنظر إليه كحافز للإبداع والابتكار وبالتالي تطور الإنسانية على مر العصور. الإنسان الكامل في هذا السياق هو الذي يقبل نقصه ويدرك أنه لا يوجد في العالم شيء مكتمل تمامًا إلا مبدع وخالق هذا الكون.
في الواقع، ربما يكون البحث عن الكمال هو مفتاح وجودنا. قد نكون محكومين بالبحث المتواصل عن الكمال لأننا نعيش في عالم غير مكتمل بطبيعته، حيث لا شيء ثابت أو دائم. لكن هذا السعي المستمر يمكن أن يكون هو ذاته سبب الإنجاز والتقدم نحو شيء أفضل، حتى وإن لم نصل إلى النهاية المثالية.
هل الكمال عائق أم دافع؟
التناقض الذي يظهر في فكرة الكمال هو أن السعي المستمر إليه قد يجعلنا في حالة من التوتر الدائم، مما يمنعنا من الاستمتاع بالتجربة الحالية. بدلاً من أن يكون الكمال دافعًا للتحسين، يصبح عبئًا ثقيلًا، حيث نشعر دائمًا أننا غير كافين أو أننا لم نحقق ما يكفي. وبذلك، قد يصبح الكمال عائقًا أكثر من كونه دافعًا. حيث يصبح تركيزنا موجها إلى احتمال أن نجد الكمال في نقطة زمنية مستقبلية، وبالتالي نعجز عن الاستمتاع باللحظات والتجارب الحالية ويغيب عن نظرنا السعادة الكامنة في هذه التجارب؛ لأننا نتوهم السعادة في الكمال الذي لم نحققه بعد.
المصالحة مع الكمال: تقبل النقص كجزء من الكمال
إذا كان من المستحيل الوصول إلى الكمال في معناه المطلق، فإن القبول بالنقص قد يكون الطريق الأفضل للعيش بسلام داخلي. الاستمتاع بالرحلة والتجربة، بدلاً من التركيز فقط على الهدف النهائي أو محطة الوصول، يمكن أن يمنحنا الراحة النفسية التي نحتاجها في عالم مليء بالضغوط. إذ يمكننا أن نعتبر أنفسنا نعيش تجارب قيد التنفيذ، وأن نُثني على التقدم بدلاً من أن نشعر بخيبة الأمل في غياب الكمال.
إن السعي وراء الكمال هو جزء أساسي من التجربة الإنسانية، ولكنه قد يصبح في الوقت نفسه مصدرًا للألم والتوتر إذا لم نتعلم كيفية الموازنة بين الطموح والتقبّل. البحث عن الكمال هو رحلة دائمة، قد لا نجد نهايتها، ولكن ما يهم هو كيف نعيش هذه الرحلة. الاكتمال لا يعني الوصول إلى نهاية مثالية، بل قد يكون في القبول بكوننا ناقصين ومتغيرين في كل لحظة. في هذا النقص يكمن الكمال، في الاستمرار في السعي والتطور دون أن نشعر بالفشل بسبب محدودياتنا.
كلما تذكرنا أن الحياة تتفتح أمامنا كوردة هنا والآن، سنتمكن من رؤية الجمال في كل ما يتكشف أمامنا من تجارب وسنسعد بما نستقبله من منح الحياة المتجددة. حينها نكتشف أن الكمال ليس هناك بعد في تلك الانجازات العظيمة والبراقة. وإنما يوجد هنا والآن في هذه التفاصيل الصغيرة والنعم والهدايا الممنوحة لنا باستمرار.